من خاف سلم يا “تاسي”!

في عام 1909 ولدت الأمريكية قريس قرونر وسط ظروف اقتصادية وسياسية سيئة، زاد الوضع سوءاً أنها فقدت والديها، وبتعليم متواضع لم تتمكن تلك الفتاة اليتيمة الحصول على وظيفة سوى سكرتيرة براتب متدني. استمرت على تلك الوظيفة طوال مشوارها العملي دون أن تتزوج حتى ماتت في عام 2010. كانت المفاجأة بعد وفاتها، أنهم وجدوا في حسابها 7 مليون دولار كانت قد أوصت أن تكون وقف لدعم منح التعليم.‬
‫في نفس تلك الحقبة تقريبا عاش ريتشارد، حيث ولد وسط أسرة غنية وتلقى تعليمه في أقوى جامعات الأعمال الامريكية وعمل في مناصب عليا في شركات مالية في أعتى أسواق المال “وول ستريت”. وقرابة السنة التي ماتت فيها قريس قرونر، أعلنت المحكمة مصادرة أموال ريتشارد وإعلان افلاسه!‬

مفارقة قد تبدوا من الخيال! كيف تفوقت قريس في أداءها الاستثماري بتعليمها البسيط وعلاقتها المتواضعة على ريتشارد الذي يملك تراكم معرفي عميق في الاستثمار مدعوم بعلاقات وخبرات مذهلة؟‬
‫تلك المفارقة تؤسس لجوهر العملية الاستثمارية، وهي الانضباط السلوكي، فالاستثمار ليس ما تعرف، ولكن كيف تتصرف بما تعرف؟‬
‫قريس كانت تجنّب نسبة من راتبها وتشتري شركات مدرجة، احتفظت بها، لمدة 80 سنة تقريباً. انضباط وصبر وعدم استعجال للثروة، أحرز نتائج مستدامة، حيث يدفع الوقف مبلغ سنوي 409 ألف دولار للمنح التعليمية.‬
‫لأن الانضباط السلوكي يعني مقاومة الطمع والبحث عن الثراء السريع وكذلك مقاومة الخوف والهلع من الخسارة، تصبح عملية الانضباط معقدة وصعبة يفشل الأغلبية في تحقيقها. وهنا يلجأ المتداولون لمنهجيات أثبت التاريخ والعلم أن مصيرها الفشل، مثل الاعتماد الكلي على نصائح الآخرين والتقلب بين الآراء، وغيرها من المنهجيات الخاطئة. ومع تكرار النتائج المخيبة من تلك المنهجيات، يرسخ شعور الخوف من السوق بالذات في أوقات الأزمات التي تعتبر أهم توقيت للمستثمر. وبدلاً من المكاشفة وتمحيص الأخطاء، يُفضّل المتداولين أن يلقوا اللوم على السوق أو الأشخاص أو الشركات المالية، دون محاولة تطوير المنهجية الاستثمارية.‬
‫انطباع الخوف من سوق الأسهم، ليس حصراً على الأفراد بل هو متعدي لأن يكون تصنيف حتى عند الشركات المالية والهيئات المنظمة وحتى البنوك المركزية، بل حتى المناهج الأكاديمية، تعتبر سوق الأسهم عالي المخاطر!‬
‫والحقيقة أن سوق الأسهم المدرجة هو أعظم مصدر لبناء الثروات فيه ديناميكية ومستوى إفصاح عالي يُمكّن المتداولين من المشاركة في أنشطة قوية وناجحة تبني لهم ثروات مع الوقت. الخوف من تلك الشركات وتصنيفها بأنها عالية المخاطر، هو قرار غير عقلاني، والتكلفة البديلة له عالية جدا!‬
‫في الواقع، هذه النظرة من المؤسسات والهيئات التي يفترض فيها الاحترافية، أدّى لتدمير ثروات بحجة التحفظ، حيث تستثمر مئات المليارات في شركات التأمين، والهيئات الحكومية، والصناديق الوقفية، في ودائع لا تعطي أعلى من معدل التضخم والزكاة! ماذا لو أُنفقت تلك الأموال في الشركات الخاصة والعامة! ماهي التكلفة البديلة لتلك القرارات؟ جزء كبير من تدهور شركات التأمين، هو التحفظ المبالغ فيه من “ساما” تجاه المنهجية الاستثمارية للشركات ونموذج الكفاءة المالية الذي يحرمها من الاستثمار بشكل أكبر في الشركات المدرجة.‬
‫في الاستثمار الخوف ليس حفظ للأموال، ولا حرص محمود، الخوف هو العدو الأول الذي يقتل الفرص ويدمر الثروات. لذلك من خاف سلم من الثروة المتنامية، أو بالأصح من خاف ندم!

رابط المقالة في صحيفة مال الاقتصادية:
https://www.maaal.com/archives/20190206/118471

2020-02-05T16:47:09+03:00أبريل 5th, 2019|الأقسام: عام, مقالات|لا توجد تعليقات

اضف تعليقا